فلسطين, حماس تعلن استعدادها للتنحي عن إدارة غزة, يصل النقاش حول مستقبل الحُكم في قطاع غزة وشكل إدارته إلى ذروته مع دخول التهدئة ووقف إطلاق النار حيز التنفيذ. ومع ذلك، يبقى مصير هذه القضية معلَّقًا، وهي التي كانت عنوانًا للتجاذب طوال فترة حرب الإبادة التي ما تزال تأثيراتها قائمة.
انتهاء الحرب على غزة
خلال الأشهر الماضية، طُرِحت صيغ فلسطينية متعددة لإدارة القطاع، كان أبرزها ما جاء في مخرجات لقاء بكين، التي دعت إلى تشكيل حكومة توافق وطني، بالإضافة إلى فكرة “لجنة الإسناد المجتمعي”، إلا أن هذه الصيغ اصطدمت بحائط الفشل والإفشال.
إن حركة حماس، التي سبق أن أعلن قائدها في غزة ورئيس وفدها المفاوض، خليل الحية، استعدادها للتنازل عن حكم القطاع إذا ما جرى التوافق على مقترحات تُشكل إجماعًا وطنيًّا وتلبي احتياجات سكان غزة، حرصت منذ اليوم الأول للتهدئة على استعراض قوتها بشكل واسع النطاق لم يقتصر على الجانب العسكري فحسب، بل شمل أيضًا استعراض قدراتها الحكومية؛ انتشرت الأجهزة الأمنية على نطاق واسع، واستأنفت الوزارات والبلديات والقطاعات الخدمية أعمالها سريعًا.
وبينما تظل الصيغ التوافقية عالقة في دائرة المجهول، يستمر الاحتلال الإسرائيلي في تحريضه على العودة إلى الحرب، ما لم يُحسَم ملف حكم القطاع، ما يُبرِز حجم التعقيد في المشهد وضرورة العمل على إيجاد حلول نوعية ومرنة قادرة على تلبية احتياجات سكان غزة وحماية حقوقهم.
صيغ متعددة وإرادة غائبة
منذ الانقسام الفلسطيني في العام 2007، ظل ملف إعادة توحيد مؤسسات الحكم في قطاع غزة أحد أبرز القضايا التي شهدت فشلًا متكررًا في المشهد السياسي الفلسطيني. وعلى الرغم من تبادل طرفَي الانقسام الاتهامات وتحميل كل طرف الآخر المسؤولية عن هذا الفشل، كان العامل الأساسي الذي أعاق التقدم دائمًا غياب الإرادة السياسية، لا الخلافات الجوهرية حول الصيغ الإدارية أو الهيكليات اللازمة لتجاوز الانقسام.
مع اشتداد حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، عاد هذا الملف إلى الواجهة مجددًا، مصحوبًا بعوامل ضغط إضافية تحث جميع الأطراف على التعامل بجدية أكبر مع مسارات التوافق الداخلي بشأن شكل وطبيعة الحكم في غزة. كان يُفترض بهذه المسارات أن تعزِّز الوحدة الوطنية في مواجهة مخططات الإبادة والتصفية الإسرائيلية للقضية الفلسطينية.
إن المسار الذي بدأ في موسكو وانتهى بالتوافق في بكين، مرورًا بجولات متعددة من الحوار الفلسطيني، لم يكن سهلًا. فقد أبدى رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، ترددًا واضحًا في الانخراط الجاد في هذه الحوارات، خاصةً في الأشهر الأولى من الحرب. كان هذا التردد مرتبطًا بالحملة العالمية ضد حركة حماس، وحرصه على النأي بالنفس في انتظار وضوح المواقف الدولية.
حمل الإعلان الصادر في بكين صيغة واضحة تقضي بتشكيل حكومة وفاق وطني مؤقتة، تتألف من شخصيات توافقية بقرار من الرئيس الفلسطيني، لإدارة شؤون غزة والضفة، والإشراف على إعادة الإعمار، وتهيئة الأجواء لإجراء الانتخابات. لكن عباس، باستباقه اللقاء بتكليف محمد مصطفى بتشكيل حكومة يغلب على عضويتها التكنوقراط في مارس/آذار، عقَّد الأمور، إذ حاول فرضها بوصفها خيارًا شاملًا لإدارة المشهد الفلسطيني، ما أدى إلى جمود مسار التوافق لعدة أشهر.
عادت الحوارات للتفاعل بمبادرة مصرية تهدف إلى تعزيز فرص التوافق كمدخل لإنهاء الحرب. وأوضح خليل الحية، مسؤول حركة حماس في غزة، أن التباحث على أرضية تتضمن تشكيل لجنة لإدارة قطاع غزة، وهو اقتراح قدمه المصريون وأعلنت حماس أنها تعاملت معه بمسؤولية، لكنها ربطت نجاح اللجنة بشرطين أساسيين: قدرتها على تلبية احتياجات غزة في خلال الحرب وما بعدها، بما يشمل الإغاثة، والإيواء، والصحة، والتعليم، والإعمار، وتمتعها بحصانة فلسطينية وقبول عربي ودولي، إضافةً إلى توفر موارد مالية كافية لتحقيق أهدافها.
وعلى الرغم من ترحيب القوى الفلسطينية الرئيسية بالمقترح المصري، ماطلت حركة فتح في إعطاء موقف واضح، وأصدرت إشارات سلبية توحي برفض ضمني، ما وضع المقترح في حالة جمود دون إعلان فشله نهائيًّا.
في ظل اللحظة الحرجة التي وصلت فيها مفاوضات التهدئة إلى مراحل متقدمة، باتت قضايا مثل إدارة معبر رفح وتفاصيل المرحلة المقبلة مرتبطة بإجراءات توحيد الحكم، ما دفع مصر إلى التعهد بحل العقبات العالقة لضمان نجاح اتفاق التهدئة ووقف شلال الدماء في غزة.
من خلال المتابعة لكل مجرى الحوارات الفلسطينية الداخلية، يمكن الجزم بأن التفاصيل الإدارية لم تكن يومًا العقبة أمام توحيد العمل الحكومي بين الضفة وغزة. فقد أثمر الانقسام عن صيغ ضمنية لتنسيق العمل بين الوزارات المدنية في الجانبين، إلا أن غياب الإرادة السياسية، خاصةً من جانب رئيس السلطة، ظلَّ العائق الرئيسي.
وعلى الرغم من المبادرات الإيجابية التي قدمتها حركة حماس في السنوات الأخيرة، استمر عباس في تبنِّي سياسة المناورة والتهرب من استحقاقات الوحدة الوطنية، منتظرًا انهيار حكم حماس في غزة بدلًا من العمل على تحقيق التوافق.
المعضلة الأمنية
يشكِّل الملف الأمني أحد أكبر المعضلات التي بقيت عالقة في الاتفاقيات الفلسطينية الداخلية، وظل عنوانًا متفجرًا لم يُعالَج بجدية. وعلى الرغم من أن “وثيقة الوفاق الوطني” المعروفة باسم “وثيقة الأسرى” (مايو/أيار 2006) تضمنت خطة متعددة المراحل لإنجاز عملية توحيد الأجهزة الأمنية وتنظيم العمل الأمني في قطاع غزة، فقد بقيت حبيسة الأدراج لسنوات طويلة.
تجنبت الحوارات اللاحقة التطرقَ للملف الأمني، إذ بات الأمر الواقع في غزة أمرًا يصعب تجاوزه. فإن الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية قبل الانقسام في العام 2007 لم تعُد تمتلك القدرة الفنية أو المؤهلات اللازمة لضبط الحالة الأمنية في غزة أو للتنسيق مع الأجهزة الأمنية القائمة التي تتبع للجهاز الحكومي التابع لحركة حماس.
مع اندلاع حرب الإبادة، أصبحت الأجهزة الأمنية في قطاع غزة هدفًا رئيسيًّا للعدوان الإسرائيلي، الذي سعى إلى ضرب القدرات الحكومية وتعزيز حالة الفوضى، تمهيدًا لتمرير صيغ حكم متعاونة تلبي الاحتياجات الإسرائيلية لتجاوز النظام القائم.
هل سيستمر وقف إطلاق النار بغزة
تجاوزت الوثيقةُ المرجعيةُ للجنة الإسناد المجتمعي الملفَ الأمنيَّ لتجنب إثارة نقاط خلافية في المرحلة الأولى من تطبيق الاتفاق، إلا أن غياب رؤية واضحة حول معالجة هذا الملف يبقى تحديًّا كبيرًا. وعلى الرغم من أن مصر قد أبدت استعدادها لتدريب قوة أمنية فلسطينية والإشراف على إعادة تشكيل القطاع الأمني بالتعاون مع جهات إقليمية أخرى، فإن الواقع على الأرض لا يسمح بتجميد الأوضاع إلى حين إنجاز هذه الخطوة، خصوصًا أنه لا يمكن تلبية الحاجة الأمنية بشكل كامل دون دمج آلاف العاملين في الأجهزة الأمنية التابعة لحكومة حماس في أي تشكيل أمني قادم في القطاع.
مع دخول التهدئة حيز التنفيذ، بادرت حركة حماس بتنفيذ انتشار واسع وسريع للأجهزة الأمنية التابعة لها، إلى جانب إعادة تفعيل الأجسام الحكومية والوزارات الخدمية والبلديات. شكَّل هذا الانتشار رسالة واضحة عن قدرة الجهاز الحكومي في غزة على التعافي من الضربات الإسرائيلية، خصوصًا مع تنفيذه في شمالي القطاع وجنوبيه بالتزامن، وعودة الشخصيات الحكومية وقادة الأجهزة الأمنية إلى الظهور العلني.
حماس تعلن استعدادها للتنحي عن إدارة غزة
في هذا السياق، صرَّح عضو المكتب السياسي لحركة حماس، محمد نزال، بأن الحركة لا تريد حكم غزة، مشيرًا إلى توافقٍ على تشكيل إدارة وطنية للقطاع تتألف من شخصيات مستقلة وكفاءات لإدارة المجالات الخدمية والصحية والمدنية. وأضاف نزال أن هذا الطرح ورد في ورقة لجنة الإسناد المجتمعي التي وافقت عليها حماس ورفضتها فتح، مؤكدًا أن فصائل المقاومة الفلسطينية ترى الورقة مرجعيةً لإدارة غزة.
على الرغم من تحديد نزال القطاعات التي يفترض أن تديرها اللجنة، كان لافتًا أن مصير الشق الأمني يبقى غامضًا.
إن الوثيقة المذكورة التي تجاوزت هذا الملف لم تُنفذ بعد، وتظل التشابكات الأمنية تحديًا كبيرًا. فمن جهة، تحتاج الحالة الأمنية إلى ضبط دقيق بعد الفوضى التي شهدتها فترة الحرب، ومن جهة أخرى، تقع على القوى الأمنية مسؤولية إدارة معبر رفح البري. هذا المعبر، وفقًا لاتفاق 2005، يجب أن يخضع لرقابة أوروبية، ما يعقد المشهد مع التقدير المسبق برفض المراقبين الأوروبيين العمل مع أجهزة حماس الأمنية. وعلى الرغم من تعهد الحركة بألَّا تتواجد أجهزتها الأمنية في محيط المعبر، تبقى التعقيدات قائمة حول شكل وطبيعة ضبط الوضع الأمني، ما يتطلب من الوسيط المصري تقديم حلول خلاقة لتجاوز هذه العقبات.